
عملات على الميزان.. كيف نحسب قيمتها الحقيقية؟
وسط تقلبات الأسواق العالمية وتصاعد التضخم في كثير من البلدان وعالم تتصارع فيه قيمة العملات، تتجه الأنظار إلى سؤال أساسي، وهو كيف نحدد «القيمة الحقيقية» لأي عملة؟ بشكل عام، لا يقدم السعر الاسمي وحده الإجابة، يعتمد الاقتصاديون على مجموعة من المعايير والمقاييس لتقدير السعر العادل للعملة.
يسعى سعر الصرف الحقيقي (RER) إلى قياس قدرة العملة على شراء السلع مقارنة بغيرها، فإذا كان المؤشر يساوي 1، فهذا يعني تحقيق تعادل القوة الشرائية (PPP).
وبناء على هذا الأساس، توضح أبحاث صندوق النقد الدولي أن التفاوت بين السعر الفعلي والفردي للعملة يحدث ضغوطاً تعديلية، فمع ارتفاع سعر الصرف الحقيقي فوق الواحد، تصبح العملة مُقوّمة بأكثر من قيمتها وتكون عرضة للهبوط، والعكس صحيح للعملة المقوّمة بأقل.
بحسب نظرية تعادل القدرة الشرائية، الجنيه المصري أضعف من مستواه الاسمي مقابل الدولار، لكن هل هذا المقياس عملي أم ثغراته تقضي على مصداقيته؟
لمعالجة هذا السؤال، يلجأ المحللون إلى مفاهيم مثل تعادل القدرة الشرائية، وسعر الصرف الفعلي الحقيقي، ومؤشرات السعر التوازني طويل الأجل.
حتى خبراء مثل رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الأسبق، آلان غرينسبان، اعترف أنه بعد خمسين سنة من المحاولة أصبح أكثر تواضعاً في توقعاته لسعر الصرف.
لذا، بدلاً من التنبؤ اليومي الدقيق، يركز الخبراء على تحديد «المسار التوازني» أو المستهدف بعيد المدى للعملة، فغالباً ما تنحرف قيمة العملة عن هذا المسار بسبب صدمات اقتصادية أو سياسات مؤقتة، لكن القوى الأساسية، كفروق التضخم وأسعار الفائدة والعجز في الحساب الجاري، تطفو في النهاية بالعملة نحو قيمتها الحقيقية.
وبمعنى آخر، فإن الانحرافات الحالية قد تكون كبيرة، لكن الاقتصاد في أغلب الأحيان يعيد التوازن بمرور الوقت.
مؤشر تعادل القوة الشرائية وأداة «بيغ ماك» تُعد نظرية تعادل القدرة الشرائية (PPP) أبسط معايير تقييم العملات؛ فهي تقول إنَّ الدولار الواحد ينبغي أن يشتري نفس كمية السلع في أي بلد، يجب أن تكون قيمة سلة متطابقة من السلع متساوية في بلدين مختلفين بعد تعديلها بسعر الصرف.
وبطريقة مبسطة، يستخدم مؤشّر بيغ ماك لهذا الغرض، بمقارنة سعر الوجبة الشهيرة في دول مختلفة، فإذا افترضنا مثلاً أن سعر وجبة بيغ ماك يبلغ 1.2 يورو في ألمانيا مقابل 1.36 دولار في الولايات المتحدة، فإنّ ذلك يعني أن اليورو «أقوى» بنحو 20% مما يجب.
عام 2024، أظهرت سويسرا أعلى مبالغة في تقييم العملة (+41.7%)، فيما جاءت مصر (-56.6%) ضمن الأضعف، وفي 2025، استمر الاتجاه: سويسرا (+49.6%)، ومصر (-57.9%) بين الأدنى عالمياً، معظم العملات العربية كالسعودية، والإمارات، والكويت، والأردن، وقطر بقيت مقوّمة بأقل من قيمتها.
بحسب النظرية، على سبيل المثال، يكلف برغر «بيغ ماك» في القاهرة 125 جنيهاً مصرياً، بينما يكلف 6.01 دولارات أميركية في الولايات المتحدة.
فإن سعر الصرف العادل يجب أن يكون نحو 20.80 جنيه للدولار، مقارنةً بالسعر الحقيقي الذي تجاوز 48 جنيهاً. هذا يشير إلى «افتقاد» الجنيه نحو 58% من قيمته في مقابل الدولار وفقاً للحساب البسيط.
حتى بعد تعديل الفارق بما يلائم الفوارق في متوسط الدخل، يظل الجنيه أقل بنحو 41% مما يجب
وبحسب النظرية، إذا كانت معدلات التضخم في دولتين مختلفتين، فإن سعر صرف العملة يجب أن يتحرك بالتناسب مع الفارق في التضخم.
باختصار، كان مؤشر الـ«بيغ ماك» مصمماً لأغراض توضيحية، ولا يعكس بالضرورة الواقع العملي بسبب فروق في الدخول والضرائب ونوعية السلع.
سعر الصرف الفعلي الحقيقي ومؤشرات السعر التوازني إلى جانب مؤشر «بيغ ماك»، يستخدم الاقتصاديون أدوات أعمق مثل سعر الصرف الفعلي الحقيقي (REER)، وهو متوسط مرجح لأسعار الصرف مع الشركاء التجاريين بعد تعديلها بمستويات الأسعار.
تقلب هذا المؤشر يكشف ما إذا كانت العملة مقوّمة بأكثر أو أقل من قيمتها، مع الأخذ في الاعتبار التضخم، والإنتاجية، والسياسات الاقتصادية.
كما تؤثر فروق أسعار الفائدة، فالعائد المرتفع يجذب استثمارات أجنبية ويقوي العملة، بينما العائد المنخفض يضعفها. وتُستخدم أيضاً نماذج ميزان المدفوعات لقياس القيمة العادلة على المدى المتوسط استناداً للفائض أو العجز التجاري وحسابات رؤوس الأموال.
أما المؤشر التوازني طويل الأجل فيُقاس بمقارنة قيمة سعر الصرف الفعلي الحقيقي الحالية بمتوسطها التاريخي، ووفقاً لدويتشه بنك، كان الجنيه المصري مبالغاً في قيمته 24% قبل التعويم في أكتوبر تشرين الأول 2016، ثم أصبح منخفض القيمة 26% بعد هبوطه الحاد.
بشكل عام، أي انحراف كبير عن متوسط سعر الصرف الفعلي الحقيقي يُعد مؤشراً على اختلال العملة، لكن القيمة النهائية تتحدد بمزيج من التضخم المحلي، السياسة النقدية، وحركة رؤوس الأموال، دون وجود نموذج واحد كافٍ لتفسيرها بمفرده.
السياسات النقدية وأسواق الصرف تلعب السياسة النقدية والمالية والدين العام دوراً رئيسياً في تحديد قيمة العملة عبر تأثيرها على التضخم والتدفقات النقدية، فرفع أسعار الفائدة يجذب الاستثمارات الأجنبية ويدعم العملة، بينما يؤدي الإنفاق الحكومي والعجز الخارجي إلى ضغوط معاكسة، وفقاً لـسي أف آيه إنستيتيوت CFA Institute.
لكن أسعار الصرف لا تعكس دائماً الواقع اللحظي؛ إذ قد تُبقي قيود رؤوس الأموال أو السياسات غير الشفافة العملة أعلى أو أدنى من قيمتها الحقيقية لفترة طويلة.
مثال ذلك الجنيه المصري الذي ظل لسنوات مثبتاً رسمياً عند 30 للدولار بينما تجاوز في السوق الموازية 50، وحتى بعد تعويمه بلغ في أغسطس/آب 2025 نحو 48.45 جنيهاً للدولار، وهو ما يعكس ضغوط العرض والطلب واختلالات الأسعار.
وبالنظر لمؤشر قوة الدولار الأميركي، المعروف أيضاً بمؤشر الدولار الفعلي الواسع الذي ينشره الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، شهد المؤشر انخفاضاً تدريجياً من مستويات 116 إلى حدود 111، وهو ما تزامن مع السياسات النقدية التيسيرية للفيدرالي الأميركي عقب جائحة كوفيد-19.
في 2023 و2024 استقر المؤشر نسبياً في نطاق 120–124 مع موجات صعود وهبوط مرتبطة بتوقعات الأسواق بشأن دورة الفائدة الأميركية.
مع بداية 2025 شهد المؤشر ارتفاعاً جديداً تجاوز 129 في يناير كانون الثاني، لكنه عاد وتراجع تدريجياً ليستقر قرب 120 بحلول أغسطس آب 2025.
بالنسبة للجنيه المصري، لم يكن هذا التراجع كافياً لإعادة التوازن، لأن جذور المشكلة محلية، من حيث الاعتماد على التدفقات قصيرة الأجل، والصادرات، ومعدلات الدين.
أمثلة عالمية وواقع الجنيه المصري وتوقعات الأسواق تُظهر عدة عملات عالمية فجوات بين قيمتها السوقية والحقيقية، فالين الياباني يتداول عند 146 مقابل قيمة عادلة 120–130، واليورو دون قيمته بـ10–15%، بينما يبقي البنك المركزي الصيني اليوان منخفضاً 15–20%.
أما عملات الخليج المرتبطة بالدولار، مثل الريال السعودي والدينار الكويتي، فتتحرك مع السياسة النقدية الأميركية، رغم أن مؤشرات كـ«بيغ ماك» تظهر انخفاض قيمتها الشرائية.
في حالة مصر، يُعد الجنيه مثالاً واضحاً على هذا التفاوت. فبعد تحرير سعر الصرف في مارس آذار 2024 وارتفاع التضخم في 2023، بقي الجنيه أقل من قيمته الحقيقية.
وتوقعت رويترز في يوليو تموز أن يصل الدولار إلى 51.1 جنيه بنهاية يونيو حزيران 2026، وإلى 52.9 في يونيو حزيران 2027، مع خفض تدريجي للفائدة مع تراجع التضخم.
ويرى محللو بنوك مثل دويتشه بنك وغولدمان ساكس أن العملات الضعيفة قد تتحسن خلال 12–18 شهراً إذا دعمتها إصلاحات اقتصادية قوية، كما ذكر تقرير فيتش سوليوشنز Fitch Solutions الصادر في أغسطس آب 2025 أن الجنيه حافظ على تداول بين 48–50 جنيهاً بفضل تدفقات المحافظ الاستثمارية وهدوء نسبي في التوترات، رغم هشاشة هذا الاستقرار.
يحذر التقرير من هشاشة الاستقرار الحالي للجنيه، بسبب اعتماد مصر الكبير على استثمارات قصيرة الأجل تفوق 20 مليار دولار، ما يجعلها عرضة لتقلبات مفاجئة إذا تراجعت ثقة المستثمرين أو عادت التوترات الجيوسياسية.
فهذا الاعتماد يمثل سيفاً ذا حدين؛ إذ يدعم العملة مؤقتاً لكنه قد ينهار سريعاً مع أي صدمة خارجية.
وفي النهاية، لا توجد معادلة سحرية لتحديد قيمة العملات، فالتوقعات قصيرة الأجل كثيراً ما تخطئ، لذا يركز الاقتصاديون على المسار الطويل المدى.
وكما يشير تقرير سي أف آيه إنستيتيوت، فإن فهم التضخم وأسعار الفائدة والميزان التجاري وتدفقات رأس المال يقدم خريطة تقريبية للقيمة العادلة، مع الإقرار بأن الاقتصاد العالمي معقد ومتغير باستمرار.